بقايا حلم عزة ''الحلقة .5.''

بقايا حلم عزة ''الحلقة .5.''  يحضيه بوهدا

عند حلول الليل، ولما انقضى واجب العزاء، تكفلت
عزة بالصغير الذي كان كثير البكاء آناء الليل وأطراف
النهار، فقد ولد مريضا، ولم يستطيعوا تحديد ما يعاني
منه الصغير . لكن المرأة رعته وسهرت معه وعاملته
كأنه من أحشائه ا خرج، وخلال مرضه هذا لم يفارق
حجرها أربعين ليلة وكأنها طير من طيور البطريق
الذي يحتفظ ببيضها على أقدامه ردحا من الزمن حتى
تفقس. تقسم الغالية بنت أخ عزة على ذلك، فكثيرا ما
كانت تستيقظ في الليل على بكاء الصغير، وترى عزة في
نفس الوضعية تحركه، وتردد العبارات المأثورة لدى أهل
الصحراء في تهدئة الرضع " الله...الله الدائم الله الكبير
الله".
كانت كثيرا ما ت دثره بلحافها شتاء خوفا عليه من
البرد، وتضمه بين يديها وحضنها حتى تدفئه ..ما أرو عها
من امرأة فعلت ما قد ت عجز كل الأمهات عن فعله مع
فلذات أكبادهن!
غير أن الأمومة تخت لف من أم لأخرى، ل ك ن تبقى
العناية بمولود عمل شاق جدا في مثل هذه الظروف.
وهذا ليس بغريب على عزة فقد كان من حلمها
وسخائها زمنا مضى أنها اقتطعت قطعة من ثوب
"الملحفة" التي تلبسها إلى عابر سبيل في البادية كي
يضعها كلثام على رأسه تقيه حر الشمس، ولما استنكر
بعض أقاربها من النسوة فعلتها أجابتهن : يخلف الله هذا
ليس شيئا يذكر ، وأين أنا من امرأة تدعى "أماها"، التي
حكي لي عنها أنها امرأة تعطي في السر والعلانية، فقد
كانت دوما تعطي لرجل معدوم كل ما كان بيدها، ما
استيسر عندها، وقد غاب ذلك الرجل مدة ثم عاد، إلا أن
آماها لم تعطه شيئا كعادتها، بل بنت أخيها هي التي فعلت
بإيعاز منها، ولما استفسر الرجل عن الأمر علم أنها
مرضت وأصاب يدها شلل، فأنشد متأثرا شعرا يقول فيه:
نبغي تبرا ليد التمتد 1
لو كان المعطى يزي بعد 2
ذيك ايد اماها معناه ا 3
ما يطرا شي فيد اماه ا 4
تستطرد عزة نعم الأثر الذ ي يقتفي هذا الصنف من
الناس يجب أن يكون قدوة لنا، وعلى هذا المنوال يجب أن
تكون حياة الإنسان، يحسن إلى الضعيف ويساعد المحتاج
ويكفل اليتيم. هذا ما يحث عليه ديننا الحنيف وهكذا يجب
أن تكون أخلاقنا وتصرفاتن ا. كانت عزة تقنع النسوة
-1 تُمد.
-2 يوي بعد: يفيد في شيء.
3-معناها:لمعناها هنا هنا معنيان،الأول بمعنى تعني _بمعنى أي...)،و الثاني ،السخاء و الجود و الكرم،و هي قريبة جدا الى المعنى الاول
والجود والكرم، وهي قريبة جدا إلى المعنى الأول.

-4 اسم علم، معناها آنتية على الكرم والعطاء.
 المعنى الإجمالي هو : أتمنى ان تشفى اليد الممدودة (آناية عن السخاء)، يد أماها، و لو آ
العطاء يحول دون شيء لحال دون مرض المعني بالأمر.
بوجهة نظرها في حديثها إليهن وتنظر كل واحدة إلى
الأخرى بإعجاب لقوة حجتها.
لكن أقرب إنسانة إلى قلبها هي "سكينة "، تلك
المرأة التي كثيرا ما تمضي نصف اليوم معها تسأل عما
يمكن فعله، وتعرض أي مساعدة يمكن تقديمه ا، فقد
وجدت في عزة حضنا دافئا تحكي لها ما تعانيه وما يختلج
صدرها، فبحكم قرب المنزل، كانت تأتي من وقت لآخر
وكثيرا ما ترضع الصغير احمد سالم، وتتفقد أحواله من
وقت لأخر.
تقول:"هو ابني أيضا أرضعته "، وتستطرد:
"أستحلفك بالله يا عزة لا تترددي في أي وقت أحسست
أنه في حاجة إلى الرضاعة، لا تترددي في المناداة علي
فهو كابني".
وتجيب عزة:"لا عليك عنده من الحليب ما يكفي،
فأبوه عاد من الصيدلية بعلب تكفيه لمدة".
"نعم": تردف سكينة أعلم، لكنك تعرفين أن
الحليب الطبيعي أفضل خاصة في حالته فهو مريض...".
وتجيب عزة :"أنت لم تقصري يا سكينة، وأطلب الله
أن يحفظ لك أسرتك..وأن يقدرنا على رد جميلك.. "
"لا تقو لي: هذا فنحن أهل وجيران والرسول صلى
الله عليه وسلم ، أوصى على الجار وأنا أحبكم في الله ..
وأعتبر هذا البيت بيتي".تعقب سكينة.
أكثر ما كان يؤنس تينك النسوة هو الحديث عن
البادية، كفضاء لذكريات جميلة وزمن بريء يمثل النقاء
متجسدا في عذرية الصحراء، حيث صفاء المكان والنفوس؛
فتنة الصحراء في أنها مكان يهبك ما لا يستطيع أن
يهبك إياه أي مكان آخر : يهبك فرصة الالتقاء بأشخاص
قد لا تكون لك علاقة حميمة بهم، فبمجرد أن تمضي
معهم وقتا، يصيرون أهلك بطيبتهم وبساطتهم
وعنفوانهم.
إلا أن الحياة في المدينة غيرت أولويات عزة،
فأصبح شغلها الشاغل هو العناية بأحمد سالم، تسهر معه
الليل ، تدلك جسده الصغير بالزيت وتقوم بالواجب
وأكثر... ومع مرور الأيام، شفي الصغير من سعال حاد
صاحبه طويلا ، ولما بلغ عامين من عمره ، أصبح يملأ
المكان بهجة وفرحة في بيت عبد الله البسيط.
غير أن ما كان يقع في ال منطقة من أحداث في
تلك الفترة، شكل نقطة تحول في تاريخ المنطقة ككل،
بعد نشوب صراع على الإقليم أطرافه إخوة في الدين
والعروبة والوطن، عجل بسفر الأب كي يحصل على ما
تبقى من الدين في ذمة الرجل بمدينة الداخلة، وعندما
وصل إلى هناك ، أخبر أن الرجل توجه إلى موريتانيا ، فلم
يجد بدا من أن يتبعه إلى هناك في رحلة طويلة ومليئة
بالمصاعب، لأنه يدري أن هذا المال هو ما تبقى كرأس
مال يعينه على كفل أسرته، نظرا للظروف القاسية التي
كانت تمر بها المنطقة.

يتبع ...//18//

يحضيه بوهدا