: بقايا حلم عزة ''الحلقة .3.''

عرفت الصحراء سنوات عجاف طويلة، لم تعرف فيها
تساقطات. وإن كانت بالمجمل قليلة قياسا بطبيعتها التي
تشهد النزر اليسير من الأمطار على مدار السنة، لكن
الجفاف اشتد لفترات طويلة كَلَّ فيه متن البدو بحثا عن
الكلأ أين ما وجد.
وكان هذا حال أسرة عزة بعد وفاة الأب . وبعد
ترحال ومقام في فيافي الصحراء، استقر المقام أخيرا
بالأسرة بمنطقة بئر أنزران ، فبعدما زوجت عزة أخوتها،
لم يتبق إلا عبد الله الذي أصبح رجلا قادرا عل ى تحمل
المسؤولية، لكنه لم يشأ أن يفارق أخته الكبيرة التي
يعتبرها بمثابة أم أكثر من كونها أخت ا، وبقيا مع ا، وفي
كل مرة تحثه على الزواج وتقول له: "ما رأيك في بنت
فلان؟ أو بنت الجيران التي لم ينساها الله من نعمة
الجمال .. ألم يستقر بك الأمر على أن تختار بنت
1 - رد العمايم يورث اندايم:قول مأثور بمعنى رد وساطة آبار القوم يورث الندم.
الحسب والنسب بعد ؟ كثيرا ما كانت تفاتحه في
الموضوع تارة ممازحة وأخرى يطبعها الجد بعبارتها التي
حفظها هو عن ظهر قلب "مول الصوم ألا عدو م ن الكوم
واللا جازوا يالكوم اللوم " 1 لكنه كان دوما يتحجج بقلة
المال ، إلى أن جاء العام المعلوم 2، وصادفت هذه السنة
مطلع العام ألف وتسعمائة وسبعين ، إذ استبشر الناس
خيرا، فقد تواجد الكثير من أبناء عمومة عزة في منطقة
بئرأنزران في بيوت بسيطة وبعض الخيام على أطر اف
المنطقة وحدثت أفراح ذلك العام، وتزوج عبد الله من
فاطمة: شابة يسكن أهلها نفس المنطقة . فعم الفرح قلب
عزة لأنه كان أعز إخوتها نظرا للعلاقة الروحية التي
كانت تربطهما منذ الصغر، و للتقارب الكب ير بينهما، حتى
أنها كانت إذا أصرت على أمر تقسم بحياته (صرة عبد
. الله) 3
سكن عبد الله بجوار أخته ، وكثيرا ما كان يتردد
عليها فقد نشأت بينها وبين فاطمة زوجة الأخ علاقة
حميمة، وذلك لطيبتها ومكانة عبد الله في قلب عزة ،
وبقوا على ذلك الحال سنوات، إلى أن قرروا الرحيل إلى
مدينة العيون بعد أن اشتد الجفاف مرة أخرى ، ونفقت
ماشيتهم، الأم ر الذي لم يترك لهم خيارا، ولم يعد
بحوزتهم ما يعينهم على أهوال الزمن ، وبعد أخذ ورد في
ما يمكن عمله أجمعوا على الرحيل ، بعدما كانت البادية
1.مول الصوم الا عاد من الكوم واللا حازو يا الناس اللوم :من صام يحسب راشدا لا قاصرا.
2 - العام المعلوم:آناية عن آثرة الأمطار
3 - صرة فلان:قول مأثور ومعناه وعزة فلان.
هي الفضاء الوحيد الذي عرفوه منذ زمن . فلم يجدوا بدا
من البحث عن حلول أخرى في ظل هذه الظروف، لتدبير
أمورهم، فكان الانتقال إلى المدينة في شاحنة كبيرة.
سكنت الأسرة بيتا متواضعا جدا، نصبت بداخله خيمة
في بهوه، يتنفسون الصحراء وكأن لسان حالهم يقول :
حتى لا ننسى وتبقى ذاك رتنا حية، وموروثنا الثقافي
يعيش إلى جوارنا.
كان ذلك حال كل العائلات الصحراوية التي
استقر بها المقام في المدينة، في هجرة شبه جماعية بفعل
الجفاف، وقد سكنت هذه الأسر في الأحياء الهامشية
منعزلة عن الأسبان الذين يقطنون في أحياء (الدشرة
التحت) 1 وكولومينا 2. وقد كان واضحا أن المجتمع في
الصحراء ظل على مسافة من الأسبان، لأنه مجتمع
محافظ، وقليل المخالطة مع النصارى إلا من قلة ك انت
محسوبة على الاستعمار أو الذين كانوا يشتغلون في
أعمال البناء أو الشرطة والخدمات البسيطة التي يتعفف
الأسبان عن مزاولتها، ما أشبه الأمس باليو م: التاريخ يعيد
نفسه فالسيناريو ذاته يتكرر مع الأجيال التي هاجرت إلى
اسبانيا.
كانت هذه المرحلة قفزة نوعية في حياة أسرة
عزة، التي تحولت من فضاء البادية كمجال بسيط، تطبعه
حرية التنقل في الفضاء الرحب، وفسحة المكان ، وكذا
-1 الدشرة التحت: أي المدينة السفلى.
2 - آولومينا: مصطلح إسباني يعني مجموعة سكنية تشبه خلية النحل .
بساطة العيش إلى المدينة حيث البيوت والجدران وضيق
المكان إذا ما قورن بالبادية.


يتبع ...//13//

يحضيه بوهدا