بهنس.. قتل بدم "بارد"..

أحببتُ أن أسمّيه قتلا، لأنه من الناحية التطبيقية هو قتل، مع سبق الإصرار والترصّد..
من يُصدّق أن أديبا وفنّانا من طينة محمد حسين بهنس يموت من البرد على رصيف بالعتبة بمدينة القاهرة؟؟
لم تشفع لهذا الكاتب -الذي ترجمت روايته "رحيل" إلى عدّة لغات- مكانتُه لينال بعض "الدّفء" من المتشدّقين بحقوق الإنسان، فضلا عن الإنسان المتميّز، لم يشفع له أن جاء ليقيم معرضه التشكيلي قبل سنتين في بلد عربي كان يُبيّت له موتا بالتقسيط.. فقتل بدم "بارد" حقا..
بهنس الذي ولد فى أم درمان بالسودان عام 1972 الذي سافر إلى فرنسا مطلع الألفين، حيث عاش فىها سنتتن، ثم عاد بعد انفصاله عن زوجته الفرنسية إلى الخرطوم، ليقيم معارضه التشكيلية، التي أوحت له بتمديد عمله إلى مصر المجاورة، لاستنساخ تجربة العرض التشكيلي التي أنجزها من قبل في أفريقيا وفرنسا وألمانيا وغيرها.. لكنه مات في الهواء الطلق من شدّة البرد في ظروف غامضة..
إنّ قتل بهنس هو تتمّة لعملية قتل ممنهجة للأدب والإبداع في مجتمع متخلف كالمجتمع العربي، ولو أن الأديب مات على رصيف ما في سوريا أو الصومال، لاستصغنا على مضض مقتله، لأن تشريده لا يختلف كثيرا عن التشريد الذي خلّفته الفتن في أكثر من مكان من الرقعة العربية، أو التشريد الذي خلّفه الفساد في كلّ البلاد، فخلّف قتلى لم يذكرهم أحد، فتكفّل بذكرهم بهنس ميتا، كما فعل وهو حي..
إن هذه الجريمة بالتأكيد مسجّلة باسم كلّ العرب، لكن مصر نابت عمليا عن تلك الدّول العربية التي "تمنح الحياة" للمرتزقة، وأغنياء الحروب، وتقتل بدم بارد رموزها ومبدعيها، دم بارد حدّ التّجمّد على الأرصفة..
إنني وأنا أفكّر في ما حدث، لا تثيرني الطريقة الوحشية التي تُرك بها بهنس يموت من البرد، بل أفكّر كثيرا وبفضول في موقف وزارة الثقافة في مصر التي لجأ إليها الكاتب والفنان هروبا من دفء فرنسا الذي تركه، كما أفكّر في ردّ فعل نظيرتها في السّودان بلده الذي تنكّر له..
ولدي تساؤل آخر، ماذا لو مات فنان غربي من البرد في دولة مثل إيطاليا مثلا؟
لقد كان موت بهنس فصلا من روايته الأخيرة التي لم يسعفوه ليمنحها نهاية سعيدة، فتجمّدت السطور في عروقه..
لنا الله من قبل ومن بعد.
.
.
محمد النعمة بيروك

لكم أحسست بالبرود يسري في أوصالي وأنا أقرأ هذا المقال.... إنه مقال حار "جدا" لحادثة تم نسج خيوط عقدتها بجمود فاضح... ونفس الأسطوانة المشروخة تدور على أسماء وازنة لقت حتفها في أذل الظروف وأحلكها وفي "حضن"الوطن" البارد أسفا ...وإنا لله وإنا إليه راجعون.... إليه المرجع وإليه المصير ....مقال رائع للراقي الأديب محمد النعمة  وموجع في نفس الوقت إنما سيكون منظر هذا الفنان ميتا اكثر وجعا ورصاصة ضاربة في عمق التاريخ لمجتمعاتنا العربية المتخلفة.... إنما أراهم  ألفوا الرصاص وكل أنواع المبيدات الإنسانية وصاروا يتساقطون تباعا.....لا شلت يمناك أخي المبدع....آية الصحراوية